أحدث المقالات

أمير عزام يكتب : أبنائي وبناتي صباح الخير


أمير عزام يكتب : أبنائي وبناتي صباح الخير

غسق الفجر

أمير عزام يكتب : أبنائي وبناتي صباح الخير


عادة ما تكون السماء مستنيرة حين يأتي إلى مقر عمله، لكن اليوم يختلف عن أقرانه بكثير، فسماء اليوم أظلمُ قليلاً مما سبق .

بخطوات رشيقة لكن يكسوها نهاية المطاف من الكسل والخمول ، حقيبة جلدية سوداء في يده اليمنىٰ، وعصىٰ أسفل إبطه الأيسر وبدلة بلون كحليّ يتخللها خطوط عريضة بلون الرصاص المائل إلى الأبيض يسير نحو " آخر يومٍ في المحروسة ".
الطريق إلى باب " المحروسة " خالية من البشر، فقط بضعة أقدام لحيوان " الجاموس الريفي " وطفل يركض خلف الماعز بعصى كي لا تحيد عن الطريق الممتدة من باب " المحروسة " إلى غيط "سعفان الأعمى" . 

غمامة الرؤية التي كانت تصيبه كل صباح لن تنال منه بعد اليوم، فتلك آخر خطواته نحو " المحروسة " مرتدياً نظارته القديمة التي تحمل شروخاً بقدر تشققات الأرض في حرارة " أبيب " القاسية.
تعجّبَ عامل " المحروسة " حين رأه علي بعد خطوات يقترب منه في وقت باكراً جداً على عكس طبيعة العمل في موسم الشتاء القارص، وعندما إقترب من " باب المحروسة " سأله العامل " جاي بدري ليه كده يا حضرة الناظر، الجو برد بعدين تنصاب "  لم يكترث له حضرة الناظر، فقط رد عليه تحيته " صباح النور يا فوزي يا فراش، نظفت الحوش ولا لأ " .

وقف شامخاً وسط حوش فناء المدرسة المتهالكة بعمر ممتد من عام ما قبل ١٩٢٠م، وقام بشد العلم الوحيد وهو الشئ الذي يتم تجديده كل عام تعبيراً عن الوطنية والإنتماء منتظراً دخول موظفي " المحروسة " المدرسة الأقدم في تلك المنطقة والأشهر بنظام التعليم العتيق الذي يعتمد على " مد القدم و تورم اليدين " في حالة الخطأ او الإجابة الخاطئة فقط. 

مرت دقائق عديدة حتى بدا له الحوش ممتلئً عن آخره، ربما هو وداع يليق بقائد حربٍ إنتصر في حربه، أو ميدان محكامة يليق برحيل حُكّماً ديكتاتورياً، وبحسه الإداري يعلم كم شخص تغيب عن الطابور من الأساتذة والطلبة سوياً " إقفل الباب يا فوزي يا فراش العدد إكتمل عايز اقول خطابي عشان يلحقوا الحصة الأولى " . 

أبنائي وبناتي صباح الخير 

 اليوم اتحدث إليكم بغير منصبٍ ولا وِصايةً، أتحدث إليكم بقلب اَبّ وربما جَدٌ لبعضكم، وأعلم أن منكم من إستاء مني يوم وربما كل الأيام وأعلم أن البعض يرى الصواب فيما أفعله، اليوم حديثي لكم أنتم فقط ولمن يعيّ من الأساتذة، لقد قسوت عليكم كثيراً في حياتي المهنية في الإنضباط ودقة المواعيد وحسن المعاملة وكلكم كنتم تنظرون الى الأمر من جانبٍ واحد، جانباً لا يقبل التقييم إطلاقاً وهو جانب الرحمة، لا يمكن إطلاقاً التفريط في حق التلاميذ بالسماح للأساتذة بالغياب أو التأخير عن الموعد الرسمي بمنطق الرحمة ولا يمكن التفريط في حق الأساتذة من الأدب وحسن المعاملة بتخطى البعض مرحلة سوء الأدب دون عقاب او حرمان من التعليم بمنطق الرحمة أيضاً، هذه ليست رحمة بل هو عين العذاب وأشد العذاب. 
 ‏
مبدأ التفاوت هذا لا يليق بنا أبداً كأمةً تريد النهوض بشأنها، أنتم ترون كيف هو الحال في باقي الهيئات التعليمية كلاً منهم فرّط في حقه فغضب التلميذ علي المعلم وحقّر شأنه، وسَلب المعلم التلميذ حقه وجعله أسير حصة مدفوعة الأجر، فكلاهما تصنعوا الرحمة وبات كلاً منهم في قتل الآخر بوجه آخر مصطنع الود، هل هذا ما كنتم تريدون ؟ هل هذه هى الرحمة من منظوركم ؟ 

أبنائي وبناتي ومن يعيّ من الأساتذة، اليوم أودعكم في يومي الأخير من عملي، وأود أن أقول لكم أن المعلم مظلوم والطالب مظلوم كلاهما نشأ في الظلمات، معلم فقير براتب فقير وطالب بلا عِلمٍ يُذكر، لذا أرجو الله أن يبادل كلاً منكم ما يملكه من خير مع الآخر حتى يكون لنا في العِلم خير، لا تجعلوا بقايا الطعام تكون سبباً في هجوم أسراب النمل الابيض عليكم ،نظفوا الفوضى من محيط هذا المبنى المقدس، فتلك الأعمدة والحوائط أشبه بأسوار الكعبة الشريفة ولو كان هناك طواف آخر لكان حول ههذ المنابر التي تَعلمنا فيه، تلك كلماتي وهذا سلامي دمتم في أمان الله. 
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -