أحدث المقالات

مصطفي زيدان يكتب : تسلل لي الشيطان




مصطفي زيدان يكتب : تسلل لي الشيطان


كلُ منا مهما وصل لقوة تحكم في ذاته، إلا أنه لا بد من لحظات يسقط فيها وتنهار قوته، ومن هذه اللحظات عندي كانت منذ ساعة تقريبًا وأنا عائد من الفيوم للقرية بدراجتي:


تسلل لي الشيطان وأخذ يحدثني وأنا أنظر للمباني والسيارات وأتسائل لِمَ لا أملك مثل هذا، أو لمْ يكن عندي هذا قبل أن أولد بدلًا من هذه الرحلة الطويلة التي سأسيرها في الحياة من أجل مستوى مادي واجتماعي يرضيني، وأخذ الشيطان يبث لقلبي وعقلي السخط على حالي، وقلما يفعل ذلك، إلا أني سقطت.

أسير بدراجتي العادية على جانب الطريق تِبعًا لسرعتي المحدودة، حتى وصلت لمنتصف الطريق بين مدينة سنورس والفيوم، وإذ بي أجد على جانب الطريق شخصًا مُلقى ولا أحد يُلقي له بالًا، كبير في السن ولا يمكن لك أن تميز لون جلبابه الأصفر وعمامته عن التراب سوى بقطرات الدم البسيطة التي صبغت طرف العمامة عندما ارتطمت رأسه بالأرض حينما سقط، توقفت ونزلت هرعًا، ألقيت بالدراجة وأخذت أعدّل من وضعه لأراه حيًا أم ميتًا، فبادرتْ أنفاسه ونبضاته بالإجابة أي نعم مازال له عمر.


أجلسته وجلست بجوراه حتى بدأ يستعيد وعيه ويجيب على أسئلتي: من أين؟ الفيوم، 

لماذا أنت هنا؟ كنت ذاهب عند أحد أقربائي هنا لأقترض منه بعض المال لأشتري لابنتي دم وأعود للمستشفى، وأين ابنتك؟ في مستشفى طامية تحتاج حسب ما ذكر إلى 'اثنين كيلو دم للعملية' وليس معي المبلغ الكامل لأشتريهم من الفيوم العام، وهل حصلت على المبلغ؟ لا لم أجد الرجل الذي يقرضني، وأين ستذهب الأن ؟ يقول إلى هناك ويشير بيده تجاه الفيوم، وطلب مني أن أساعده على الوقوف، فوقف بعد أن مسحت له دم فمه بمنديل، طلبت أن أوصّله لهناك لكن رفض وشكرني وأصر أن يذهب وحده والدموع في عينيه، فتركته يذهب ومشيت ورائه، سار مسافة ليست بقصيرة ثم سقط مرة أخرى.

ساعدته على الوقوف ثانيةً وطلبت منه أن نعبر الطريق لنكون في إتجاة الفيوم لنوقف سيارة فسألته عدة أسئلة لأرى مدى وعيه بما حوله وهل أكل أم لا، فحكى لي أنه مريض سكر، وابنته أرملة وتقارب الخمسين عام وليس لها سواه... غاب الوعي عني أنا هذه المرة، وخرج هو من إغماءه ودخلت أنا بدلًا منه.


هو قد يكون كاذبًا لا شك، وقد يكون صادقًا، لكن لا مجال للشك أن مِن هذه الآلام ما هو حقيقي، إن لم يكن هذا الشخص فهناك غيره، إن لم تكن هذه القصة فهناك ما هو أصعب منها.


عيون البشر تحمل من القصص ما يفوق مقدرة الأقلام على التسطير، وعقول البشر عن التخيل والتفكير، والقلوب تئن وتئن ولن تستطيع أن تعبر أبدًا عن حجم معاناة الأخرين.


ذهبنا للجنب الأخر من الطريق، أوقفت له سيارة كانت فارغة تماما، أخرجت له كل ما كان متبقى معي من مال، وهو ليس بكثير أصلًا، بل يكفيه للمواصلات فقط، فشكرني وذهب.


ذهب هو وذهبت أنا، أخذ قصته معه، وأكملت أنا طريقي بدراجتي وقصتي بعقلي، عيونه بما تحمل ذهبت لتكمل معاناته في الحياة، وأكملت أنا سيري وأنا ألعن نفسي وبما فكرت به منذ قليل، بأي النعم أنا! فوالله لو أن السخط رجل في هذه اللحظة لقتلته، ولو أن الرضى امرأة لتزوجتها، ولو أن الحياة تعطينا ما نريد لربما كنا فقدنا ما نملكه ولا نراه.
فالحمد لله 



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-